أسباب كثيرة يمكن استعراضها لساعات طويلة إذا أردنا الحديث عن الأسباب التي منعت الثورة السورية من إتمام ما أرادته، علماً أن قيامها بحد ذاته إنجاز وانتفاض على سنوات طويلة من القهر والقمع، سنوات جعلت من مجرد التفكير بأي محاولة تغيير سياسي ضرب من ضروب الخيال.
يتركز تفكير النسبة الأكبر من السوريين عند الإشارة لهذه الأسباب إلى العوامل الخارجية، الخارجة أصلا عن إرادتهم، والمتعلقة عمومات بتوافقات وصراعات ومصالح الدول ومشاريعها الاقتصادية العقائدية في المنطقة، وهم بذلك لا يجانبون الصواب، لكن المشهد لا يكتمل إذا تم تجاهل الأسباب الداخلية التي، ربما، سبقت الأسباب الخارجية في حرف الثورة عن مسارها وإلباسها لبوسا ليس لها، وبالتالي منعها من الوصول إلى غاياتها.
البحث في الأسباب الداخلية، عادة ما يقود، بل يحتم، البحث في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي وجدت ضمن المساحة الجغرافية المعروفة بـ”سوريا” وطبيعة العلاقات التي نشأت بينها خلال عقود، وهذا من شأنه، ليس فقط أن يفيد في فهم الأسباب التي منعت الثورة من إنجاز مهمتها، بل أيضا في محاولة إعادة بناء هذه العلاقات بما يخدم سوريا المستقبل.
لاشك أن البحث في الأسباب الداخلية سيزج، صاحبه، في متاهات المناطقية وثنائية الريف والمدينة، والعشائرية، والشرائح والطبقات الاقتصادية ناهيك عن حالة الانتماءات القومية والطائفية، لكن هو شر لا بد منه، ولا مناص من اقتحامه ووضعه تحت مجهر النقد بعيداً عن التعصب لكل ما سبق، وتحت عنوان التفكير في سوريا الجامعة لكل أبنائها، فإن أردنا هذا فلا بد أولاً من تشخيص المرض، فالأسباب الخارجية المتعلقة بالدول، هي أقصر عمراً من الأسباب الداخلية، فالأولى مرتبطة بتحولات مصلحية قد تقلب الطاولة في أي لحظة على كل التحالفات القائمة، إلا أن الخطورة تكمن بما يتجذر بالمجتمع من مفاهيم “خاطئة” أو “ضيقة” قد يحتاج تغييرها لسنين طويلة، ومن ثم تصبح جزءاً من مسلمات كل شريحة ووفقها تتعامل مع غيرها من الشرائح.
إلا أن صدمة الثورة وما أحدثته من هزات عنيفة طالت كل شيء، من شأنها أن تجعل من حالة التغيير المجتمعي أقل صعوبة من ذي قبل.
التفكير بمآلات الثورة ليس وحده من يحتم ضرورة سبر المجتمع والإضاءة على مجاهيله، بل بات من الضروري التفكير بطريقة مختلفة عما سبقها من طرق لم تذهب على عمق المشكلات وتشخيصها، ويمكن أن يضاف إليها ما أوجدته السنوات اللاحقة لربيع العام 2011 من تحولات وما طرحته من مفاهيم، يصعب معها مجرد التصور أن سوريا ستعود كما كانت، لاسيما ما فرض من قوانين مجتمعية جديدة في سوريا جراء عمليات التهجير والنزوح الداخلية، وكذلك “العالم الجديد” القائم بحد ذاته في مخيمات اللاجئين، وأيضا ما فرضته المجتمعات الجديدة، في دول اللجوء الغربية، من أساليب حياة وقيم جديدة لاشك أنها ستجد انعكاسها على الحالة السورية بشكل عام آجلا أم عاجلا..