جاور ضباط الأمن والجيش فكاد يدفع حيته مرميا في زاوية جهنم

أتمت جلسات محاكمة المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب في “كوبلنز” الألمانية 50 جلسة، رويت خلالها الكثير من أهوال قصص الاعتقال والتعذيب على لسان من عاشوها في أقبية نظام الأسد، إلى درجة تشعر -كمتابعٍ لهذه المحاكمة- أنك لن تسمع من جديد أسوأ مما سمعت، قبل أن يأتي شاهد آخر ليخيب ظنك ويخبرك عمَّا لا يستطيع بشر تخيله.
في هذه الجلسة دخل شاب من الباب المخصص للشهود ليجلس قبالة القضاة، مفتتحا -كما العادة- بذكر معلوماته الشخصية، والتي تتحفظ “زمان الوصل” عليها، التزاما منها بمبدأ حماية الشهود.
كان الشاب يعمل في مغسلٍ للسيارات ضمن منطقة عسكرية في ريف دمشق، وبالتالي كان كل زبائنه من الضباط الذين بنى معهم ثقة متبادلة، لدرجة أنهم كانوا يتركون له سياراتهم الخاصة مع عائلاتهم وأطفالهم، ليقوم بغسل السيارة وإعادة العائلة إلى المنزل، كما شرح للقضاة.
كانت الثورة قد بدأت بالفعل ربيع 2011، لكن الشاهد استمر بعمله محاولا تجنب أي موقف قد يضعه في “شبهة” بسبب طبيعة عمله ومكان سكنه المحاط بمنازل الضباط والأمن. واستمر على هذه الحال حتى 26 أغسطس/آب 2011.

قبل شهر من هذا التاريخ تعرضت منطقته -وهي إحدى بؤر الثورة في ريف دمشق- لحملة اعتقالات عشوائية استهدفت ما يقارب 2300 شخص في يوم واحد، بحسب ما أخبر الشاهد “زمان الوصل” لاحقا، ثم جاء ذلك اليوم من شهر آب عندما دخل الأمن والجيش بسيارات كثيرة وأعداد كبيرة إلى مكتبه في مغسل السيارات، وقاموا بالاعتداء على الموجودين بالضرب والشتائم، وعمدوا إلى اعتقاله وأخذه إلى الفرقة العاشرة.
“… بلشوا يحققوا معي ويضربوني تقريبا 4 أيام، صاروا يسألوني عن أشياء ما بعرفها عن حمص وحلب وشو عملت بحمص ويقولولي وين كنت عم تفجر، قلت لهم أنا بحياتي ما طلعت من شغلي وما طلعت برا البلد ومكان عملي حساس على تقاطع بيمرقوا ضباط كتير وأمن.. فيكم تسألوا الضباط جيراني كيف أنا ما بعمل مشاكل ودايماً بشغلي..في بتلفوني أرقام ضباط وقلت لهم أسألوهم. أحكوا مع جيراني.. أنا ولا مرة طلعت ع حمص ولا ع حلب… هاد الحكي كل يوم كنت أحكيه بعد ما يضربوني”. هذا ما أخبر به الشاهد القضاة لكنه لم يتحدث بالكثير من التفاصيل عمَّا تعرض له من تعذيب واكتفى بقوله: “ضربوني بالبوط العسكري وكسرولي سناني. صاروا يضربوني على كل جسمي والعلامات لسه بجسمي”.
في إحدى فترات التوقف (الاستراحات)، تمكنت من الحديث مع الشاهد على انفراد، فأخبرني بتفاصيل أكثر سترد لاحقا في سياق هذا التقرير.
بعد 4 أيام من التعذيب المتواصل تم نقل الشاهد ومعتقلين آخرين إلى فرعٍ أمني، عرف الشاهد لاحقا أنه كان فرع الخطيب… “قعدونا ع الكراسي بالباص بس ممنوع نرفع راسنا وحطوا لكل حدا باذنجانة بتمو ونحن قاعدين وكنا مطمشين. صاروا يضربونا لحتى وصلنا”. أضاف الشاهد.
في فرع الخطيب استمرت “حفلة الاستقبال” بالضرب والدوس عليهم لما يقارب ساعتين، وبعد ذلك أجبر الشاهد على خلع ثيابه بالكامل بالتزامن مع ضربه بشدة، قبل إرساله إلى الزنزانة الجماعية التي تجاوز العدد فيها 400 معتقل، بحسب قوله.
“تاني يوم طالعوني ع التحقيق. رجعوا ربطولي عيوني وإيديي وكان السؤال الوحيد بالتحقيق: أنت كيف فجرت الموكب بحمص؟ شو كنت عم تعمل بحلب؟”. برغم نفي الشاهد أمام المحقق في فرع الخطيب قصة سفره إلى حلب أو حمص، وتكرراه ما قاله سابقا في الفرقة العاشرة عن طبيعة عمله وأرقام الضباط على جواله، إلا أن ذلك لم يعفه من التعذيب مرتين على الأقل في كل تحقيق من جلسات التحقيق الثلاث التي خضع لها في فرع الخطيب.
*كنت نزيلها
كثرٌ هم الشهود الذين حضروا محاكمة “رسلان” وتحدثوا عن الزنزانة الجماعية في فرع الخطيب وعن الأوضاع فيها، بل إن بعضهم قام برسمها أيضا محددا أبعادها وما فيها. ومما اتفقت عليه رواية الشهود كان وصف إحدى زوايا الزنزانة القريبة من المرحاض، حيث يتم هناك تجميع البطانيات البالية لتختلط بالمياه بالمياه الآسنة.. في هذه الزاوية حيث لا قدرة لأحد على البقاء، يوضع أيضا الأشخاص الذين يظن أنهم مشرفون على الهلاك، حيث إن نقل هؤلاء (الموتى على قيد الانتظار) إلى الزاوية المرعبة، يوفر لـ”الأحياء” مزيدا من المساحة في زنزانة محشوة عن آخرها، ولا مكان فيها لقدم.
يترك من وضعوا في تلك الزاوية ليواجهوا مصيرهم، في مكان قال عنه أحد الشهود سابقا: “إنها جهنم في الزنزانة، عندما يتم وضعك هناك تعلم أنك انتهيت”. بينما استرسل آخر: “كنت أرى الدود يخرج من أحدهم، ولا يستطيع أحد الاقتراب منه، فقط عندما يتأكدون أنه مات يطرقون الباب لإخبار العناصر بضرورة أخذ الجثة.. لقد رأيت أطفالا في هذه الزاوية أيضا”.

حتى تاريخ هذه الجلسة، تحدث معظم الشهود عن “زاوية الجحيم” وعمَّن كان فيها، لكن أحدا منهم لم يقل إنه وضع فيها، حتى جاء الشاهد الحالي ليؤكد أنه كان يوما ضمن هذه الزاوية، فيها ويخبر القضاة عن بعض ما حل به في فرع الخطيب.
“بالليل صار يطلع مني ريحة كتير والسجن فيه ناس كتير وضغط.. وصار أي حدا بيلمسني بتوجع فورا. حطوني بزاوية عند الحيط حتى ما حدا يقرب عليي وصاروا يدقوا باب السجن ويقولوا تعالوا طالعوه ريحتو عم تطلع. كنت بزاوية صغيرة وصار يطلع مني عَمَل (قيح) ودم أسود. تاني يوم رجعوا طالعوني ع التحقيق ونفس الأسئلة. الضابط ما تحمل الريحة قلهم خدوه وطالعوه لبرا”.
الشاهد الذي أغمي عليه عدة مرات بسبب وضعه الصحي أو نتيجة تعذيبه وضربه على أماكن جروحه المتقيحة، لم يبقَ في الزاوية المرعبة أكثر من 5 أيام، نقل بعدها إلى مشفى حرستا العسكري لتردي وضعه الصحي بشكل كبير. وهناك كان له جولة أخرى من التعذيب.
“أخدوني ع المشفى وقالو لي اسمك 17 إذا منقول اسمك الحقيقي وبترد علينا حتاكل قتلة. كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة كان في ضرب. ربطونا بالتخت بالجنازير وصاروا يضربونا كلياتنا بكرباج”. بهذا المشهد بدأ الشاهد وصف تجربته في مشفى حرستا العسكري.
أخبر القضاة أيضا عن عنصرٍ جاء بسكين لـ”يتسلى”، فقام بفتح عدة جروح أخرى في ظهر الشاهد تاركا فيه علامات لن تغادره ما بقي حيا… هنا بكى الشاهد ولم يستطع أن يكمل، فطلبت له القاضية أول استراحة لمدة 10 دقائق.
عندما خرجت (أنا كاتبة التقرير) من القاعة خلال هذه الاستراحة، بدا لي الشاهد من خلف زجاج غرفة الشهود جالسا على كرسيه وكأنه فاقد للقدرة على فعل أي شيء.. رافعاً رأسه للأعلى تارة، وأخرى راميا بثقل رأسه على يديه.
يتبع في الجزء الثاني

Recent posts