أحلام كبيرة والفصول الأربعة، مسلسلان سوريان، أجد نفسي أبحث عنهما، وأبدأ بمشاهدة حلقاتٍ منهما، كلما فاض بي الحنين إلى دمشق، وأترك لدموعي أن تنفلت من عقالها، لأغسل روحي من وطأة الشوق.
ثم أحمد هذا العصر على نعمة اليوتيوب، وأعود لرتابة حياة المنفى، متابعةً رحلتي في طرقاته الباردة.
ليس مستغرباً أن يكون العملين من إخراج المبدع حاتم علي، يحملان بصمته، فمن سواه، استطاع أن ينقل روح دمشق في أعماله، لنشعر نحن المشاهدين المُبعدين عن الشام، وكأننا زرناها ولو لدقائق.
2020 كان مصراً، وحتى يومه الأخير، أن يكسر قلوب السوريين أكثر وأكثر، فقبل أن ينتهي بيوم سرق منا سورياً أصيلاً، وفناناً مبدعاً أخذه معه ورحل، وكأن هذا العام المشؤوم، لم يكتفِ بالكوارث التي حملها للعالم أجمع ومنذ يومه الأول.
رحل حاتم علي، رحل صاحب البصمة الخالدة في الدراما السورية، رحل غريباً في غرفة فندق، لا طال سماء غربةٍ، ولا أرض وطن.
عندما كان في الخامسة من عمره، انتقل إلى دمشق نازحاً مع أهله، من قريته الجولانية التي أخذها الاحتلال الإسرائيلي، في صفقة خيانة، سميت وقتها بنكسة حزيران.
عاش غريباً في وطنه، يحن لأرض أنجبته ويحلم بالعودة، لتصبح أحلامه حبيسة روحه، فتخرج إبداعاً في أعماله الفنية.
كل من عرف حاتم علي قال عنه بأنه رجل ٌيحلم أكثر مما يتكلم، يعمل بإلهام وإصرار وصبر غريب، يهتم بأدق التفاصيل، ويغدق من روحه على النص الورقي، فيصنع من شخوص أعماله أناساً حقيقيين، لا يمثلون أدوارهم، ولا يتقمصونها، بل يعيشونها، ويأخذون المشاهد ليعيشها معهم.
بهذه الروح الصادقة استطاع المخرج المختلف حاتم علي أن يدخل إلى ضمير كل سوري، ويترك عند في واحد منا انطباعاً رائعاً، لفنان قد لا يتكرر بتاريخ الدراما، ليس السورية فقط، بل العربية أيضاً، فحين أخرج مسلسل الملك فاروق للكاتبة المصرية لميس جابر، كثر الهرج في الوسط الفني المصري، كيف يوكل عمل ضخم كهذا، يؤرخ لأهم مرحلة من تاريخ مصر الحديث، لمخرج سوري، لتسكت بعدها كل الأصوات، فقد نجح العمل نجاحاً باهراً، وحصد أعلى نسب مشاهدة على مستوى الوطن العربي، ليثب وبالدليل الذي لا يدع مجالاً للشك بأنه مخرج فذ، لا يمكن لأحد أن يحل محله.
قليلاً ما اجتمع السوريون على رأي، كما اجتمعوا بالأمس في حزنهم على حاتم علي، تشارك في الحزن موالاة ومعارضون، من في الداخل ومهاجرون، كتاباً، صحفيون، ممثلون، فنانون، مشاهدون، ومتابعون، مواطنون من كل سوريا… الكل نعاه كمخرج فنان، وكإنسان أحسوه قريباً منهم، فمن سواه قدم صورة الإنسان السوري الصادقة، فمن سواه استطاع أن يلمس يومياتهم، ويصورها بواقعيتها المفرطة على الشاشة الصغيرة.
لم تكن أعماله مجرد مسلسلات نتابعها لتمضية الوقت، بل كانت تأريخاً يومياً لحياة البسطاء، وكان بعضها تخليداً لقصص شعبية، نقلها وقدمها بخيال خصب، فتجسدت قصص الحكواتي وصارت لحماً ودماً، ولم يعد الزير سالم، وجساس، وكُليب، مجرد شخوصٍ في قصةٍ تاريخيةٍ شعبية.
قدم حاتم علي الرواية التاريخية بلحم طازج، فصار التاريخ معه حكاية تُرى، قبل أن تُقرأ، مازجاً ما بين خياله المبدع، ونظرته الفنية، وبين مصداقية النص التاريخي المكتوب، دون أن يمس مصداقية التاريخ.
وفي أعمال أخرى استطاع أن يوسع رقعة مُشاهد المسلسل البدوي، من مُشاهد ذي بيئة محددة، إلى شريحة واسعة من المتابعين، في تجربته البدوية الأولى مع السيناريست عدنان عودة، في مسلسل أبواب الغيم، ليتكئ إبداع المخرج على جمالية النص، فيصبح حاتم بدوياً، ويجعلنا نلتف حول منقل قهوة مضارب العظيد ونتابع حكايتهم.
ومع زوجته المبدعة السيدة دلع الرحبي، أتحف الشاشة بأجمل حلقات مسلسل الفصول الأربعة، المسلسل الذي كلما شاهده سوري، عاد إلى بيته أهله الأول في بيت نبيلة وكريم، وعصي الدمع، لكن الدمع هذه المرة لم يكن عصياً أبداً على شريكك في الحياة والإبداع يا دلع.
كان يكفي المشاهد العربي أن يعرف أن العمل من إخراج حاتم علي، ليثق بأنه سيحظى بوجبة فنية درامية تستحق المشاهدة.
حاتم الرجل الذي اضطرته الأوضاع بعد الثورة أن يصبح لاجئاً في القاهرة، بعد أن قضى عمره نازحاً في بلاده، ثم مهاجراً في كندا، عاد إلى القاهرة في زيارة عمل ليقضي غريباً، وحيداً، في غرفة فندق بعيداً عن دمشق موطن نزوحه ومسقط روحه، وبعيداً عن كندا موطن هجرته، ولكن قريباً جداً من قلوب السوريين.
بالأمس، عاد حاتم إلى دمشق التي خرج منها مجبراً، عاد جثةً في نعش، عاد ليكون رقاده الأبدي في تراب الشام، بين من أحبهم وأحبوه، محمولاً على أكف زملائه ومحبيه، جاب شوارع الشام للمرة الأخيرة، اغتسل بمطرها الأخير ودموع مشيعيه.
لن أقول الراحل حاتم علي، فمن مثله لا يمكن أن يرحل، وله هذا الكم من الحب، وهذا البقاء في الذاكرة الجمعية لمواطنيه.
أما نحن يا حاتم، يا أيها الكبير، من سيعيدنا إلى دمشق؟ من سيحمل نعوشنا؟ أو يبكينا؟ ننعيك وننعي بك ومعك غربتنا التي طالت.