كانت نكتة (نازح ويعيد) تمثل لنا في التسعينات نبوءة فاجعة في أننا نحن أبناء الجولان نمضي إلى حيث أقدارنا في الترحال، وهذه الحال لم تكن وليدة صفة أطلقت على فئة بلا أرض فقط، بل كانت بلا شعور بالحماية جيث إن سلطة البعث كرستها وتسببت فيها، ورسمت على مهل وعي السوريين في أن ذاتهم ليست واحدة فهم فرق وطوائف وطبقات، ونحن كنا بداية التشطي الكبير حيث النازح له أقدار أخرى في بيت في الضواحي المحطمة والمخيمات أو في الأرياف القصية.
هكذا نشأ حاتم كما الجميع في (سبينة) الخليط الفلسطيني السوري فالكل إما نازح أو فقير أو محطم..هنا ينمو الفقراء كالفطر الأسود، وينفجرون في الشوارع بحثاً عن آمالهم في عالم متناقض ومهمل، ولكنه فرن الأحلام التي تنضج فتصير مشاريع مبدعة، وساعد في صعود هؤلاء المجانين المبدعين أجواء الهوس القومي والفكري، واليسار المتقد حينها قبل أن تلتهمه حمى الخشية من التغيير.
كنا حينها الجيل ألأصغر من حاتم بسنوات قليلة نحاول أن نكون في دائرة الحلم، وكانت محاولاتنا الأولى لإبعاد شبح النزوخ الثقيل، واستحضار شبق البقاء بصرخة تعلو: ها نحن هنا..أنباء التغريبة ألأولى والمنسية.
عندما أنجز حاتم التغريبة الفلسطينية بكى كل أبناء الجولان مع هذا الترحال والخذلان..كانوا هم بسواد لباس نسائهم، وحزن الرجال في ضياع وطن لايعوّض، وفي خذلان وطن من القريب قبل الغريب، ومن نكسة طالت ونكبة مقيمة.
يقول حاتم عن تغريبته التي عانقت رحلته على ظهر خاله نازحاً من الجولان: (أنا لست فقط أحد أبناء الجولان المحتل الذين عاشوا تجربة تتقاطع في كثير من تفاصيلها مع تجربة شخصيات مسلسل التغريبة الفلسطينية، ولكنني أيضاً عشت طفولتي وشبابي في مخيم اليرموك وكنت في عام 1967 بعمر صالح الذي كان يحمله خاله مسعود”، وكنت أيضاً محمولاً بالطريقة نفسها على ظهر أحد أخوالي، بشكل أو بآخر استطعت أن أستحضر الكثير من هذه التفاصيل الواضحة أحياناً والمشوشة في أحيان كثيرة والملتبسة في بعض الأحيان وأوظفها وأعيد تركيبها مستكشفاً إياها في أحيان كثيرة من خلال العمل نفسه، وكثيرا ما سُئلت نفس السؤال وهو كيف يمكن لمخرج غير فلسطيني أن يقدم عملاً عن هذه القضية، وأنا شخصياً كنت أقول إن القضية الفلسطينية هي قضيتنا جميعاً كعرب).
هي هكذا..في قلب وعقل حاتم..هي هكذا في عقولنا وقلوبنا نحن أين نزحنا في بطون أمهاتنا أو على أكتاف أقاربنا، ومن ثم عشنا هجرتنا الكبرى خارج حدود الوطن حيث لا تقدر القلوب على احتمال فكرة الانفصال النهائي..فتتوقف.
توقف قلب حاتم فجأة من هول تلك الفكرة الهاجس، أو هكذا نريدها نحن موتاً صادماً دون مقدمات، وربما من حظ حاتم أن يموت قريباً من هواء الوطن قادماً من أقصى العالم في مهجره..مات في مصر بقلب لم يحتمل كثرة الترحال..وربما تغريبة جديدة.