تمنيت على قادة المعارضة السورية، تنكيس أعلام الثورة، وتواصلت مع بعض أصحاب القرار ليفعلوا، أو يعلنوا الحداد ثلاثاً على الأقل، على قامة وطنية من عيار، مناضل قلما يتكرر، لكني منيت بالخيبة كما أكدوا المؤكد، بأنهم أقل سياسة من التقاط هكذا لحظات.
وخشيتُ، ليس لخشيتي من مبرر، أن يُشير أحد الساسة من حول بشار الأسد عليه، فينعي ميشيل كيلو كقامة ثقافية ومفكر وطني، فيتبدل فكر الحملة الانتخابية، من توزيع البرغل إلى وعي ودهاء سياسي، إذ يمكن فيما لو سار عليه النظام، أن يوصله لفترة وراثية رابعة، بأكثر جماهيرية على الأقل، إن انبرى قارئ للقول: واصلها واصلها.
المهم، ألّف المناضل ميشيل كيلو بوفاته أول من أمس، بين جلّ السوريين، وأكد من جديد لكل من يتصّيد بمياه الطائفية، أن السوريين أبعد ما يكونوا عن مسيحي ومسلم أو حتى عن سني وعلوي، إن كانت الوطنية ومصير البلاد بالكفة الأخرى، وزاد السوريون من تأكيد الإخلاص لمن يستأهل الوفاء.
وذلك، رغم ما نبشه الحب العام لفقيد سوريا الكبير، من بعض الأحقاد والغيّرة، حتى بدواخل من لبسوا ثوب الحرية والنضال مقلوباً، فقرأنا وسمعنا بعض “الخيبات” التي وصلت حدود الاتهام وتلوّث يد كيلو بالدماء، لأنه شارك بمؤسسات المعارضة وتماشى مع تكتلات إقليمية فرضها القرار الدولي وسيرورة المخطط، قبل أن يكسو “كيلو” الإحباط جراء النكران من جلّ من تربوا على معارفه ونضاله وبعد اتضاح حجم المخطط الدولي لسوريا والحؤول، ولو بالدم، دون الوصول لحرية الشعب وديمقراطية الدولة، لينسحب من أي تمثيل رسمي ويتفرّغ للكتابة ومشاركة السوريين، كل السوريين، رؤاه وهواجسه وأحلامه، ولو عبر إطلالات إعلامية أو رسائل “الواتس أب” التي أوصلت تحليلات “كيلو” إلى جلّ بيوت السوريين.
بل وآثر التصاقه بالشعب حتى قبيل وفاته بأيام، فأرسل بخط يده إلى السوريين “كي لا تبقوا ضائعين في بحر الظلمات”، موصياً بلاءات عدة “لا تنظروا إلى مصالحكم الخاصة كمتعارضة مع المصلحة العامة، فهي جزء أو يجب أن تكون جزءا منها” و “لا تنظروا إلى وطنكم من خلال أهدافكم وإيديولوجياتكم، بل انظروا إليهما من خلال وطنكم، والتقوا بمن هو مختلف معكم بعد أن كانت انحيازاتكم تجعل منه عدوا لكم” ولا تفرقوا “ففي وحدتكم خلاصكم، فتدبروا أمرها بأي ثمن وأية تضحيات، فلن تصبحوا شعبا واحدا ما دمتم تعتمدون معايير غير وطنية وثأرية في النظر إلى بعضكم وأنفسكم، وهذا يعني أنكم ستبقون ألعوبة بيد الأسد، الذي يغذي هذه المعايير وعلاقاتهم، وأنتم تعتقدون بأنكم تقاومونه”.
خاتماً لاءاته “لا تتخلوا عن أهل المعرفة والفكر والموقف، ولديكم منهم كنز.. استمعوا إليهم، وخذوا بما يقترحونه، ولا تستخفوا بفكر مجرّب، هم أهل الحل والعقد بينكم، فأطيعوهم واحترموا مقامهم الرفيع”.
بل وزاد الراحل الذي كان يتفاخر ويكرر أنه ابن الثقافة الإسلامية كما المسيحية، بمباركة للسوريين بحلول شهر الصوم، بصوت مخنوق من وراء كمامة الأوكسجين، لتكون آخر ما يتركه “ميشيل كيلو” بصوته، قبل أن يرحل عن 81 عاماً، قضى أكثر من نصفها بين الاعتقال والملاحقة والمنافي…وجميعها بالحلم للوصول للحرية التي آثر اعتبارها، الغاية الأولى والنهائية للإنسان.
قصارى القول: سريعاً رغم أننا على الأرجح، لن نضيف إلى معارف السوريين إن قلنا، أن “كيلو” ترجم عشرات الكتب عن الألمانية وتنوعت مؤلفاته بين الفكر والسياسة والقصة والرواية، كما ليس من جديد بالإشارة، لتاريخه النضالي الحافل، مذ رمى بالتاسع من تشرين الأول عام 1979 حجره بمياه مخطط حافظ الأسد الآسن، وقت نصب للسوريين شرك “تطوير الجبهة الوطنية التقدمية” والتقى وفدها مع الصحافيين والمثقفين لسبع ساعات، كان لطرح “ميشيل كيلو” و”عادل محمود” خاصة، أسباب تفشيل التآمر، بل وليس من المبالغة القول، إن لطرح “كيلو” وآخرين وقتذاك، السبب بحراك شعبي ونقابي ثوري، كشف نوايا الأسد الأب، فعجّل بمخططه القمعي ليطاول “كيلو”، كما كثيرين غيره، الاعتقال.
ومما قاله “كيلو” بذلك اللقاء “المطلوب إسقاط منجزات الشعب السوري، وهذا ممكن بضرب الحريات، وبضرب الديمقراطية…. الأزمة التي نعيشها مميتة. لا دور للشعب، والحريات خنقت عن سابق تصور وتصميم…العيب الأساسي هو في بنية البلد، وفي القوى، وقد جررنا إلى هذا العيب تحت شعارات التقدم. وعي الشعب مسألة هامة، وقد وصل إلى مرحلة خطيرة من التدمير. المهم إصلاح جذري، وليس معالجة ظواهر خارجية وأخرى داخلية.
وختم “كيلو”: “إذا لم نكن قد حللنا مسألة الخبز، فمتى تـُـحلُّ القضايا الأخرى”.
لكن الراحل “كيلو”، لم يثنه السجن عن حلمه التنويري والديمقراطي، ولو عبر الصحافة التي درسها بمصر وألمانيا، فأوجع الأسد الأب بمقالات وافتتاحيات سجلها له تاريخ الثمانينات والتسعينات، قبل أن يعود نهائياً إلى سورية، ليشتغل على الأرض، سواء عبر المنتديات “الحوار الوطني”، “جمال الأتاسي” قبل أن يتفتح ياسمين “ربيع دمشق” بالتوازي مع مرحلة توريث بشار الأسد وفخ بالون الحريات الذي رماه ابن أبيه وقتذاك.
ليكون في “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” في أكتوبر عام 2005 والدعوة، لأول مرة من داخل سورية، إلى نظام ديمقراطي ومن ثم “دمشق بيروت- بيروت دمشق” في مايو 2006 الذي طالب خلاله 500 ناشط من البلدين، بتصويب العلاقة مع لبنان واحترام استقلاله وسيادته، مبرراً لبشار الأسد لسجن “كيلو” مجددا، رغم أن الراحل أكد عبر مقال وهو من داخل السجن، أن سجنه لا يتعلق ببيان دمشق بيروت، وربما بسبب مقالته “نعوات سورية” التي نشرت على ما أذكر بالشهر نفسه.
“واليوم، وبعد سبعة أشهر على وجودي في السجن، أراني أتساءل: هل صحيح أنه تم توقيفي بسبب إعلان دمشق بيروت، لا، ليس إعلان بيروت/دمشق سبب اعتقالي. هذه قناعتي… وإذا كان هناك من يريد الانتقام مني…؛ فإنني أتفهم موقفه وإن لم أقبله، مع رجاء أوجهه إليه هو أن يمتنع عن وضعه تحت حيثية القانون والقضاء، كي لا يقوض القليل الذي بقي لهما من مكانة ودور”.
ليأتي نضال “كيلو” المعروف، خلال الثورة ومذ انطلاقتها، سواء بالعمل الميداني أو التنظيري والتنظيمي “المنبر الديمقراطي، اتحاد الديمقراطيين السوريين ومن ثم الائتلاف” حتى انسحابه عام 2016.
ولكن، هل ناضل “ميشيل كيلو” لنحو نصف قرن، بعصمة ومن دون أخطاء، على الأقل، بعد أن نال السوريون بعض حريتهم بعد الثورة وتسلطت أضواء الإعلام، على كل فعل وتصريح وزيارة؟.
بعيداً عن فلسفة “الخطأ” سواء وفق الرؤى المختلفة أو المعايير الذي يأتي الممكن والمرحلة بمقدمتها، أو حتى تعدد زوايا رؤية المصلحة الوطنية.
أأخطأ “ميشيل كيلو” باعتباره جبهة النصرة فصيلاً ثورياً؟ بل ومحاولته الوصول إلى أمير الجبهة في القلمون “أبو مالك الشامي”، أو على الأقل، هل وقع بفخ العامة، وهو السياسي والمفكر، باعتبار مد اليد للنصرة خطوة على طريق إسقاط الأسد، وبعدها يتم تصويب الهنات، متجاهلاً ذهنية وأهداف الراديكاليين؟!
أأخطأ “ميشيل كيلو”، بوضع يده، خلال التنظيمات السياسية المعارضة، بيد مراهقين ونفعيين، أم تراه كما قال مرة، يحاول ضبطهم، كما أن لهم الحق بسوريا؟!
هل أخطأ ميشيل كيلو بكثرة تصريحاته وإيثاره ضخ الأمل، حتى بأكثر اللحظات سوداوية وإحباطاً، أم من أهم صفات الثائر، استمرار الأمل وإغلاق أبواب الإحباط عن الشعوب؟!
وهل أخطأ أبو أيهم بمشاركته اللجان والمؤتمرات والمنتديات، حتى مجموعات لا حصر لها على الواتس أب، في حين أن دوره بمكان آخر، حيث لا يمكن لكثيرين الوصول إليه أو ملأه؟!
نهاية القول: طبيعي أن يخطئ “ميشيل كيلو”، وذلك ليس فقط، بسبب تعدد مستويات الحالة السورية، بعد الأسلمة والتدويل والتسليح والتدخلات، بحيث يستحال على محلل أو مفكر، التنبؤ إلى أين المآل، بل أيضاً، لأن “كيلو” نزل إلى أرض السياسة، ليقود ويناضل ويجرّب، ولم يهرب كما كثيرين، إلى أبراج التنظير عن بعد أو السعي للجوء والجنسية والمنافع.
وأخطأ أيضاً، لأن كل ما فعله، كان بدافع عشقه لسوريا وإيماناً بوصولها للحلم والمشتهى، فميشيل كيلو ولمن يعرفه عن قرب، هو طيب بطبيعته وشعبي وابن بلد بمنشئه ومتواضع جراء سعة علمه وزهده واتساع تجربته، وهذه الصفات عادة ما تتنافى مع طبائع ممتهني السياسة، إن لم نقل مقتلهم.
لكن غير الطبيعي، أن يحاول البعض تصيّد تلك الأخطاء والتنكر لخمسين سنة من النضال المستمر، ربّعت “ميشيل كيلو” على قمة المثقف العضوي والمناضل الشعبي والمفكر الموسوعي…وألا يكسو سوريا السواد، على قامة، كل الأماني ألا تنشف أرحام النساء وتلد كمثلها.