روى صديق للمخرج السوري الراحل “حاتم علي” الذي توفي منذ أيام إثر تعرضه لنوبةٍ قلبية حادة في القاهرة جوانب من ذكرياته معه ونشأته وحضوره الفني والإنساني قبل أن يدخل عالم الشهرة من أوسع أبوابها.
وكان علي قد نزح من منطقة “الزوية” مدينة (فيق) -مسقط رأسه– مع عائلته إلى تجمعات النازحين في دمشق عام1967 ثم سكن في منطقة “الحجر الأسود”.
ودرس في مدارس تربية القنيطرة الخاصة بأبناء الجولان في “الحجر الأسود” جنوب دمشق، وانتسب إلى كلية الآداب قبل أن ينتسب إلى “المعهد العالي للفنون المسرحية” ليتخرج منه في عام 1986 ثم عمل مدرساً في ذات المعهد لسنوات.
وأشار “عمر مزعل” ابن الجولان إلى أن علي المولود عام 1962 ينتسب إلى قبيلة (الجلابات) البدوية إحدى عشائر الجولان، وكان متأثراً إلى حد كبير بالتراث الشعبي الجولاني كما هو متأثر ببيئة حي “الحجر الأسود” الذي يعد عاصمة اللجوء الجولاني في مدينة دمشق، وكان هذا الحي في منتصف السبعينات-حسب قوله- يعج بعدد من التيارات الفكرية والأدبية والفنية إلى جانب تأثره بالبيئة الدمشقية كالبيت الدمشقي الذي سحر عقله وجسد عشقه له في كثير من الأعمال الاجتماعية التي قام بإخراجها.
في هذا الجو الفكري تعرّف “مزعل” على الفنان الراحل كأحد أبناء الحي الذي كانا يسكنانه، ومن ثم التقاه في منظمة الشبيبة التي عمل محدثنا مسؤولاً ثقافياً في إحدى وحداتها.
وتابع المصدر: “أنشأت آنذاك مع جمهور من شباب الحجر تجمعاً ثقافياً أسبوعياً يضم مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية والأدبية والفنية، وكان حاتم أبرز تلك الوجوه، ومن خلال ذلك قام مع عدد من رفاقه بإنشاء فرقة مسرحية جماعية يقوم أفرادها بالتأليف والإخراج والتمثيل بشكل مشترك، وكان هو بمثابة المايسترو لتلك الفرقة أو أمين سرها.
وتوقف “مزعل” ليشير إلى أن “حاتم” كان مجتهداً ومخلصاً ومتفانياً في العمل مع الجميع في الكتابة والتأليف أو في التمثيل والإخراج، وقد أعد مع فرقته مسرحية ناجحة تم عرضها في مدرسة “منيف العائدي”، وكان موضوعها -حسب قوله- شبيهاً بموضوع التغريبة الفلسطينية، ولكن بلغة شاعرية فصيحة.
وكشف محدثنا أنه كان يحتفظ بنص هذه المسرحية في جملة أوراقه الأدبية ومن ضمنها مقطع جاء فيه : “نرحل في الشتاء ونرحل في الصيف .. آه يا رحلة الشتاء والصيف”، وتتضمن إسقاطاً على نزوح وهجرة أبناء الجولان كما فيها إشارة وتوظيف لما ورد في القرآن الكريم في سورة “قريش”.
وكان “رهين التغريبتين” –حسب وصف صديقه- عصامياً مخلصاَ لفنه قبل أي شيء ويطمح باستمرار إلى التجديد وتغيير وتطوير نفسه، كما كان قارئاً حاذقاً ولذلك كان ينافس نفسه ويتفوق عليها، ولم يتوقف عند كونه كاتباً وأدبياً أو كونه ممثلاً ناجحاً وموهوباً فمثله كثير، ولكن طموحه دفعه -حسب قوله- ليتعلم الإخراج منذ تجربته الأولى، فهو لم يدرس الإخراج وإنما مارسه واقعاً بكل مثابرة وإصرار لأنه كان يعلّم نفسه بما يتيسر له من قراءات مسرحية وسينمائية وأدبية، وهكذا صعد نجمه من التأليف والتمثيل إلى عالم الإخراج الذي سما به من المحلية إلى العالمية.
ولكن رغم ذلك لم ينسلخ عن بيئته فهو ابن الجولان الكبير وابن “الحجر الأسود” وابن سوريا العربية صانعة الأمجاد المنفتحة بعبقرية شعبها على التجارب الإنسانية.
وحول ما أُثير من تساؤلات عن موقفه مما يجري في سوريا أشار المصدر إلى أن “حاتم” ولد في الجولان المحتل وسط عائلة تمتاز بانتمائها البدوي الأصيل وسكن في “الحجر الأسود” الذي جمع نخبة متعلمة رائعة من أبناء الجولان تطمح إلى التعلم والتطلع إلى المستقبل كما تتطلع إلى التغيير السياسي كذلك، والتخلص من النظام البعثي الماكر الذي غدر بهم، لكن إخلاص “حاتم” لفنه دفعه لعدم الانخراط في أي عمل سياسي”.
واستدرك المصدر أن الفنان الراحل كان يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن السياسة بشكل مباشر بسبب إخلاصه لفنه واجتهاده، ولكنه كان ثورياً على طريقته الخاصة، بفنه الراقي وفكره الوثاب وإيمانه بدور الأدب والفن التراكمي للسمو بالإنسان نحو تغيير نفسه وتطويرها أولا قبل تغيير مجتمعه، ونقل “مزعل” أن الراحل قال له مرة حين طلب منه الانتساب إلى حزب سياسي قومي معارض قريباً من أفكاره: “إن فنه لن يقبل “بضرة” تشاركه مخدعه وأضاف أنه عازم على السير فيه من أجل الجميع وفوق السياسة والإيديولوجيات.
ومضى “مزعل” ليشير إلى أن صديقه المخرج الراحل كان بصدد قراءات جادة ومعمقة عن المسرح كاشفاً أنه استعار منه جميع مالديه من مسرحيات ومؤلفات نقدية عن المسرح و”العرس الدموي” لـ”لوركا” الإسباني و”الأشجار تموت واقفة” لـ”أليخاندو كاسونا” ومسرحيات عربية لـ”فرحان بلبل” و”سعد الله ونوس” ومجموعة من أروع ما كتب في المسرح العالمي.
في تلك الفترة شهد “الحجر الأسود” الذي كان مثابة عاصمة للثقافة الجولانية اعتقالات بعض الشباب من المعارضة اليسارية والقومية، وتم إلقاء القبض على عدد من الشباب الذين تركوا منظمة الشبيبة وانتقلوا إلى صفوف المعارضة القومية “الاتحاد الاشتراكي جناح الأتاسي”، ففر عدد منهم خارج البلاد.
وكان محدثنا ممن ألقي القبض عليهم لفترة وجيزة بسبب الأجواء والصراع الذي وقع بين الإسلاميين والنظام الطائفي في تلك المرحلة.
وفوجئ بعد الإفراج عنه -كما يقول- بمقالة كتبها “حاتم علي” وحملها إليه أحد الأصدقاء المشتركين، وأضاف محدثنا أن المقالة جاءت بشكل رمزي شاعري لا يشير للاعتقال بشكل مباشر ولا أحد يستطيع أن يفك بعض رموزها -كما يقول- سوى الأصدقاء.
وأردف أن لقاءات جمعته فيما بعد مع “حاتم” وأصدقاء الفرقة القديمة إلى أن فرقتهم مشاغل الحياة والزواج والسفر والعمل في الخارج.