يقضي محمد مع أسرته يوماً واحداً في الأسبوع فقط، فيما يُحرم منها لستة أيام بسبب صعوبة تأمين ما يسد رمقهم، إذ يغادر صباح كل يوم سبت مخيم دير بلوط الواقع في ريف مدينة جنديرس متوجهاً إلى عمله بورشة خياطة في مدينة الدانا بريف إدلب، مُضطراً للمبيت في مكان عمله، ويقبض كل أسبوع 100 ليرة تركية فقط، بمعدل 16 ليرة تركية يومياً، أي ما يعادل 5000 ليرة سورية، يدفع نصفها ثمناً لطعامه ومستلزماته اليومية، ويُبقي على النصف الآخر لأسرته المكونة من أربعة أفراد يُقدمها لهم عند عودته إلى منزله مساء يوم الخميس.
محمد المهجر من مدينة حلب منذ أربع سنوات لم ينجح في إيجاد عمل بالقرى والمدن القريبة من المخيم رغم بحثه الطويل، وبحسب ما قال فإنّ أرباب العمل باختلاف المهن لا يدفعون ما يستحقه العامل من أجر وغالباً ما يتعرض العمال لابتزاز عند موعد تقبيض الأجرة، حيث يُفاجئون بحسم نصف المبلغ الذي تم الاتفاق عليه مُسبقاً والذريعة تقلب أسعار الصرف.
أوضاع معيشية صعبة تشهدها مناطق “شمال غرب سوريا” التي تتقاسم إدارتها “حكومة الإنقاذ” في إدلب و”الحكومة المؤقتة” في شمال حلب، ويُعد العمال فيها الحلقة الأضعف، حيث يُعانون من تدني الأجور وأوضاع مادية سيئة وانعدام الموارد جراء فقدان شبه تام لسوق العمل مع اكتظاظ عدد كبير من الشباب في المنطقة بسبب موجات التهجير التي فرضتها الآلات العسكرية الروسية والأسدية والإيرانية التي طالت كثير من المناطق السورية منذ سنوات.
أبو بسام، مهجّر من الغوطة الشرقية بريف دمشق، يبلغ من عمره 55 عاماً، يعمل في معمل بلوك بريف منطقة عفرين بأجر 35 ليرة سورية عن كل قطعة طوب ينتجها، ويصل مردوده اليومي إلى ما يُقارب 6000 ليرة سورية لقاء إنتاج 170 قطعة بمعدل عمل 12 ساعة يتكبد خلالها ثمن طعامه بحسب ما قال لـ “اقتصاد”، مضيفاً بأنّه لا يملك رأس مال يُعينه في إنشاء عمل مستقل، وليس لديه أقارب في أوروبا ليستجر المساعدات منهم، ما يجبره على القبول بالعمل بأية أجرة كانت، لا سيّما وأنّ أسرته كبيرة وزوجته مصابة بمرض مزمن.
في الوقت الذي تتدنى فيه أجور العمال تشهد مناطق شمال غرب سوريا ارتفاعاً متزايداً في أسعار المواد الأساسية من غذاء ودواء ومستلزمات تدفئة، إذ تجاوز سعر كيلو السكر 1500 ليرة سورية، وكيلو الحطب الرطب 250 ليرة سورية، وتجاوز سعر ظرف مسكن الآلام السيتامول 500 ليرة سورية، واسطوانة الغاز 24 ألف ليرة سورية، وربطة الخبز بنحو 1000 ليرة سورية، ناهيك عن أسعار مستلزمات الأطفال من حليب وفوط ومتممات غذائية التي أصبحت أسعارها خارج القدرة الشرائية للناس.
رياض، في ريعان شبابه يعمل بتحميل وتنزيل الطوب وأكياس الاسمنت والرمل وخلافها بريف مدينة اعزاز، يقبض لقاء تنزيل كيس الاسمنت الواحد 50 ليرة سورية، وهنا يتساءل، كيف يمكن أن يكون سعر كيس الاسمنت 10 آلاف ليرة سورية، وتحميله أو تنزيله بـ 50 ليرة سورية فقط؟!
وفي تفاصيل حديث “اقتصاد” معه، أكّد أنّ رغبته التي يعمل لتحقيقها هي الهجرة إلى أوروبا، لكنه يقف عاجزاً أمام ذلك بسبب إغلاق الحدود وعدم امتلاكه أجور الوصول إليها بطرق غير شرعية، ويأمل فتح الحدود “السورية – التركية” وفقاً للقانون الدولي أمام الراغبين بالهجرة.
لا يوجد إحصائيات رسمية تُقدر عدد العاطلين عن العمل في شمال غرب سوريا، كما لا يوجد دراسات رسمية حديثة تُبين متوسط حاجة الأسرة السورية شهرياً، لكن بعض الدراسات غير الرسمية الأخيرة ترجح أن حاجة الأسرة المكونة من خمسة أفراد في الحد الأدنى تصل إلى 700 ألف ليرة سورية شهرياً، أي ما يعادل 260 دولار أمريكي بسعر الصرف الحالي البالغ 2700 ليرة سورية مقابل الدولار الأمريكي الواحد.
الستينية أم نجاح، مهجّرة من ريف حماه تعمل بقطاف المنتجات الزراعية في مزارع إدلب، تقضي يومها صيفاً تحت أشعة الشمس الحارقة، وشتاءً وسط البرد والصقيع لا سيّما في موسم قطاف الزيتون، تقبض يومياً بين 3 و5 آلاف ليرة سورية فقط، تُعين بها أحفادها الخمسة الفاقدين لآباءهم، إذ لديها ابن مفقود منذ منتصف العام 2011، وآخر متوفى منذ أربع سنوات جراء سقوط صاروخ على منزلهم قبل النزوح، وتؤكد برغم راتبها اليومي وحصولها على كفالات للأيتام الخمسة وصندوق معونة كل شهر، إلّا أنّها لا تتمكن من توفير أي مبلغ منها.
كإجراء يضمن للناس حقوقهم والحفاظ على مدخراتهم أمام هبوط قيمة الليرة السورية قامت حكومتي “الإنقاذ والمؤقتة” هذا العام باعتماد التعامل بالليرة التركية عوضاً عن الليرة السورية، إلّا أنّ ذلك لم يسهم في رفع أجور العمال أو رفع سوية القدرة الشرائية لديهم.
للوقوف عند الحلول، تكلم “اقتصاد” مع الناشط محمد الدحمان، عضو “اتحاد نشطاء جنوب دمشق”، حيث أكّد أنّ قاطني شمال غرب سوريا يفتقدون إلى خيارات العمل وتأمين المورد بسبب غياب الأنشطة الصناعية الكبيرة وورش العمل المتوسطة جراء عدم استقرار المنطقة سياسياً وغموض مستقبلها، ما يضع العمال في موقف صعب أمام تأمين قوت أسرهم، لا سيّما وأنّ الأجور اليومية تتدنى يوماً بعد الآخر وسط فقدان أي جسم نقابي يمثل العمال ويلبي طموحهم، وعدم مبادرة قوى الأمر الواقع لتنظيم واقع العمل وفرض سلطة رقابية لتقدير وتحديد الحد الأدنى من الأجور التي من المفترض أن تُخفف من معاناة العمال وتحميهم من تذبذب سعر صرف العملات وارتفاع أسعار المواد الرئيسية.
ويُضيف الدحمان: “يجب أن يكون للمنظمات الإنسانية دور هام وبارز في التخفيف من وطأة أعباء العمال وإخراجهم من دائرة استغلال أرباب الأعمال عبر تأمين فرص عمل مستقلة وتقديم رأس المال اللازم والإشراف”.
ركود اقتصادي، جمود في الانتاج، ساعات عمل طويلة، استغلال وابتزاز، تزايد البطالة، غياب للمنشآت، واقعٌ أثقل كاهل قاطني الشمال الذين أضناهم الفقر والنزوح وحياة المخيمات، ومهما بلغت موارد العمال منهم لن تعلو القاع أمام مصاريف المعيشة المرتفعة.