للحظة تبدو التعليقات التي لاحقت موضوع الحجاب في سوريا، على خلفية ارتداء المعارضة العلمانية بسمة قضماني له في ريف حلب مؤخراً، وخلعه من قبل الإعلامية نور حداد الشهيرة بلقب “نور خانوم”، قادمة من حقبة زمنية لا تمت للقرن الحادي والعشرين بصلة، خصوصاً أن معظم النقاشات جادلت حول نقطة “ضرورة احترام العادات والتقاليد السائدة في المجتمع” كشرط يحدد مدى شرعية ما يقوم به الفرد، لتصبح الشخصية الأولى محقة تستحق الثناء والثانية مذنبة تستحق التقريع، ليس من منطلق ديني فقط، بل من محدد ثقافي قائم على الصواب السياسي.
ولا يعني ذلك التعبير إطلاق أحكام مسبقة وقاطعة على جموع المعلقين أو اتهامهم بصفات كالرجعية أو التخلف. بل يشير إلى حقيقة أن النضال من أجل الحريات الفردية مازال بعيداً عن المجتمعات العربية، بما في ذلك المجتمع السوري، الذي أثبتت الحرب السورية طوال عشر سنوات أنه يفتقد لهوية حقيقية تعطي للأفراد شعوراً موحداً بالانتماء الى بقعة جغرافية مؤطرة، والذي في هشاشته الحالية، مازال يبحث عن هوية جديدة لمستقبله.
ولعل فكرة الاحترام المشروط هي ما يجب أن يتم التوقف عنده مطولاً. فهي حاضرة منذ وقت طويل في خطاب النظام السوري، مثلما هي حاضرة في خطاب المعارضة الإسلامية. وإلى جانب أنها مصطلح لا يمكن التأكد من حدوده بدقة متناهية، مثل أي تهمة أخرى كوهن نفسية الأمة مثلاً، فإن عدم الاحترام يصبح بسهولة تهمة جاهزة تستخدمها السلطة، دينية كانت أم سياسية أم مجتمعية، لقمع حريات الأفراد وخياراتهم الشخصية أولاً، وطريقة ناعمة لفرض أنماط ثقافية محددة ثانياً، ويؤثر بذلك بشكل مباشر على إحساس الأفراد بالانتماء والقبول الاجتماعي حتى ضمن نطاق ضيق مثل العائلة.
وفيما يجب أن يكون النضال المجتمعي والسياسي قائماً على فكرة الفردانية كمحدد للحرية بمفهومها الأوسع، أي حق الفرد في فعل ما يريد، طالما أنه لا يتخطى القانون المدني حصراً، فإنه من المخيف فعلاً قراءة كثير من التعليقات الآتية من شخصيات تعرف عن نفسها عموماً كشخصيات علمانية ومنفتحة، تصف ارتداء قضماني، وهي عضو اللجنة الدستورية عن وفد المعارضة السورية، للحجاب بعكس كافة إطلالاتها الأخرى من دونه، على أنه احترام ثقافي مرحب به وضروري من أجل إيصال الأفكار للمجتمع المستهدف، رغم أن ذلك الفعل بحد ذاته لا يعتبر فقط استخداماً للدين لأغراض سياسية، وهي تهمة تلاحق الخصوم السياسيين عادة، بل أيضاً نوعاً من الإرضاء للمناخ الإسلامي في سوريا أيضاً.
ويصبح التوقيت الذي تحصل فيه كل تلك النقاشات حساساً أيضاً، لكونها تأتي في وقت تلمع فيه “هيئة تحرير الشام” الجهادية صورتها بلقاءات إعلامية عالمية، وكأنه من الطبيعي أن يكون قدر السوريين مقسوماً بين الدكتاتورية الأسدية أو الظلامية الإسلاموية، من دون وجود بدائل أكثر طبيعية وأقل تطرفاً. وهي حجة مازال النظام السوري يستخدمها حتى اليوم في خطابه الدبلوماسي والإعلامي عند حديثه عن شرعيته كجهة حاكمة رغم كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها في البلاد بحجة “مكافحة الإرهاب”.
وضمن هذا المحدد تقدم سيدة في مركز قضماني سياسياً وفكرياً، صورة سلبية عن مستقبل سوريا الذي تنشط في الفضاء العام من أجله، ليس فقط للمجتمع الغربي مثلما كررت التعليقات الناقدة لها، بل أيضاً للسوريين أنفسهم الذين لا يمتلكون الثقة عموماً في المعارضة السياسية التي تشكلت بعد الثورة السورية، كواحدة من أكثر الحركات السياسية انفعالية وتورطاً في سوء التقدير السياسي، وأفرزت شخصيات بأداء اعلامي وسياسي هزيل، لم يوفرا لغير العرب وغير المسلمين شعوراً بوجود إمكانية لتغيير حقيقي في البلاد، كما أنها فشلت في الترويج لما يجب أن يكون من المسلمات في أي دولة عصرية منشودة، مثل الحقوق الفردية.
ويعزز ذلك الجدل، المتوازي مع الحملة التي تعرضت لها نور حداد، من قبل جمهورها المعارض للنظام السوري تحديداً، من فكرة مزعجة لا بد من البحث بشأنها، وهي إمكانية أن يكون دافع كثيرين ممن عارضوا نظام الأسد، من السوريين، طائفياً/دينياً لا سياسياً/حقوقياً، أي أنهم ضد “النظام العلوي” الحاكم للأغلبية السنية، مهما كان التشابك بين المحددين السابقين في بنية النظام السوري كبيراً، ما يدفع للتساؤل إن كان ذلك الموقف العام سيتغير لو كان حكم النظام الأقلوي أكثر عدالة وأقل إجراماً؟
ويأخذ ذلك النقاش نحو المستوى الفردي الذي تمثله حالة حداد، فخلع الحجاب من فتيات سوريات لاجئات في أوروبا مثلاً ينظر له عموماً كتخلٍّ عن العادات والتقاليد وعن الهوية السورية وتشبهاً بالغرب وانسلاخاً عن الجذور، ولا ينظر له من قبل المعلقين أنفسهم على أنه مثلاً احترام لعادات المجتمع الأوروبي، بالطبع لأن ذلك النوع من الاحترام ليس مطلوباً من أصله، بل هو على العكس أحد واجبات المجتمع/السلطة تجاه أفرادها وخياراتهم.
وفيما يتم التمسك بحجج من قبيل الغضب الأوروبي تجاه أشخاص يرفضون مصافحة أفراد آخرين من الجنس الآخر، يعيد ذلك النقاش نحو ما لا يتم الحديث عنه عادة، وهو جذر تلك المشكلة المتمثلة بطبيعة الدين نفسه، أياً كان، بوصفه منظومة أيديولوجية تفرض قيوداً صارمة على الحرية الفردية.
وفي حالة الحجاب، يصبح السؤال الأبرز هو كيف يمكن التضامن مع رمز للقمع الديني على الجسد البشري؟ وهل يمكن اعتبار “الفرض الديني” حرية شخصية في نهاية المطاف؟ وبشكل أهم ألا يجب أن يكون النضال المجتمعي هادفاً لتحقيق الطوباوية المطلقة في الحرية التي تقتضي التحرر من الدين نفسه أو على الأقل من فروضه الأكثر قمعية، بحق الجسد قبل أي شيء آخر؟
وهل يكفي الحديث عن ضرورة وجود المساواة بين المحجبات وغير المحجبات، من دون تقديم خطاب أشمل يواجه المشاكل الحقيقية المتمثلة بوجود الحجاب نفسه، سواء كان “اختيارياً” مثلما يتوهم البعض أو إجبارياً كحالته في إيران أو السعودية أو تحت حكم “داعش” البائد، مهما كان ذلك النقاش حساساً من ناحية مسّه بالنصوص الدينية “المقدسة”.
ومهما كانت وجهة النظر هنا، فإن حالتي قضماني وحداد لم تكونا خيارين شخصيين، وفق المنظور العام على الأقل، بقدر ما كانتا تعبيراً سياسياً. فبينما كانت شخصية “نور خانوم” في البرنامج الساخر الذي حمل الاسم نفسه، تمثل الفتاة المحجبة التي تعمل في وسط يهيمن عليه الذكور عادة، حوّل ذلك حداد إلى نموذج لكثير من الفتيات السوريات المحجبات الطامحات بالنجاح المهني، كما كان حجابها تحديداً، منصة للهجوم عليها من قبل الجمهور الموالي للنظام السوري وآلته الدعائية بوصفها “وجهاً للمعارضة الاخونجية” حسب تعبيرهم. معتبرين أن المعارضة تسعى لأسلمة سوريا وقلب نظام الحكم “العلماني” فيها.
وامتد ذلك في ردة الفعل الموالية على حالتي قضماني وحداد، بالقول أن الشخصيات المعارضة هي شخصيات متلونة تتاجر بالدين لأغراض سياسية، للوصول إلى نتيجة سامة مفادها أن الدولة السورية بمفهومها الأسدي/البعثي هي الحامية الشرعية والوحيدة للأخلاق والمجتمع والتي تمثل أيضاً الإسلام الصحيح، علماً أن ذلك الخطاب الرسمي تضخم منذ كلمة الرئيس بشار الأسد في مسجد العثمان بدمشق أواخر العام الماضي، عن العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة الأسدية بمجتمع السوريين، وفيه جاهرت الدولة الأسدية بأنها دولة مسلمة محافظة تحمي المجتمع والأسرة من قيم “الليبرالية الحديثة”، أي الحريات الفردية بوصفها مشروعاً غربياً للسيطرة على المجتمعات وتفكيكها، بدلاً من حقيقتها كتطور طبيعي ضمن حقوق الإنسان.
وفق ذلك، ينتقل الحجاب من حامل لرمزية دينية إلى ناقل لرمزية سياسية متمثلة بوجود فارق سوري بحت بين المعارضة السياسية والإصلاح الاجتماعي، رغم أن الثورة كفعل شامل تعني رفضاً للمنظومة السياسية السائدة بأبعادها المختلفة، ومنها البعد الاجتماعي. ومع التسليم بأنه لا يمكن فصل منظومة القيم والأخلاق العامة أو العادات والتقاليد عن نظام الحكم السياسي الراعي لها، من المثير للاهتمام حقاً وجود أصوات سورية من مختلف الانتماءات السياسية على جانبي الموالاة والمعارضة تدعو للنضال والنشاط العام على واحد من الجانبين فقط دون الآخر، وتتوازى معاً في كثير من النقاط وإن اختلفت في الهدف النهائي الذي تسعى إليه.