رغم عروض العمل التي انهالت عليه من الخارج، ورغم تعرض حياته للخطر المميت من قبل جراء انفجار قنبلة،أدت إلى إصابة ساقه، فإن الطبيب السوري “عدنان الجاسم” ظل مصرا على البقاء في بلاده، ومواظبا على تقديم العناية الطبية لكل من يقصده، حتى قضى متأثرا بفيروس “كورونا”.
فوفقا لتقرير نشرته وكالة “أ.ب” الأمريكية وتولت “زمان الوصل” ترجمته، فإن رجلا بمواصفات الدكتور “الجاسم” لم يكن غريبا عليه أن يكون في الخطوط الأمامية للمحاربين الذي تصدوا لجائحة “كورونا” وهي تفتك بسوريا، كبقية بلدان العالم.
في السادس من أيلول/ سبتمبر الفائت، بدأ الطبيب الذي يبلغ 58 عاما يشعر بالإرهاق، وما هي إلا 4 أيام حتى ودع الدنيا، متأثرا بالفيروس القاتل.
ابن خاله، الدكتور زياد العيسى، الذي يعيش في باريس، وصف خبر وفاة “الجاسم” بأنه “أمر مأساوي للغاية”، شارحا كيف أجرى اتصالاته بأطباء الداخل لينعشوا ابن خاله على جهاز التنفس الصناعي، ولكن الوقت كان قد فات، حيث أسلم “الجاسم” روحه في اليوم التالي.
“العيسى”، الذي يشغل مدير الفرع الفرنسي لاتحاد منظمات الرعاية الطبية والإغاثة، ذكّر بأن الدكتور عدنان اعتنى بكثير من الناس وأنقذ أرواحا كثيرة، لكن الأطباء لم يتمكنوا من إنقاذه.
وأكد “العيسى” أن ابن خاله “عدنان الجاسم” كان السبب الرئيس الذي شجعه على خوض غمار الطب ودراسته.
نشأ “العيسى” و”الجاسم” في بيئة زراعية، لكن والد الدكتور عدنان كان طموحا واختار طريق العلم، وعاد ليكون مدرسا في منطقته، ولقن ابنه حب خدمة الناس، ولهذا لم يكن مستغربا أبدأ أن يعود “الدكتور عدنان” إلى منطقته ليخدم أهلها، بعد تخرجه من كلية الطب بجامعة دمشق.
تزوج “عدنان” من طبية مختصة بأمراض النساء، وأنجب منها 4 أولاد، وقد عملا معا في منطقة دير الزور، بتقديم الرعاية الطبية لأهلها.
وفي عام 2011، وعندما فتح النظام نار حربه المجنونة بوجه الشعب السوري، كانت حياة الدكتور “عدنان” وزوجته مهددة باستمرار، سواء من قبل نظام الأسد في المقام الأول، أو حتى من قبل تنظيم “الدولة” حين سيطر الأخير على شرق البلاد.
كان الدكتور “عدنان” وزوجته كبقية أطباء سوريا الذين اختاروا علاج الناس في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد.. يعيشون خطرا محدقا وقلقا دائما من قصف المشافي والمراكز التي يعملون بها، وكان عليهم مع كل غارة طائرة أن يوقفوا عملهم النبيل ويسارعوا للاختباء لحظات، ريثما تنتهي الغارة، التي لا تنتهي عادة إلا مع مزيد من الإصابات في صفوف الموجودين بالمكان، ومن بينهم أفراد الطواقم الطبية.
وعلاوة على أصوات القصف والغارات التي تلاحقهم، قاسى الدكتور “عدنان” وعائلته مرارة التهجير من مكان إلى آخر، وفي كل مرة كان عليهم أن يختبروا معاناة جديدة، بما في ذلك انفجار قنبلة في منزله بينما كان مختبئا مع أسرته في الطابق السفلي، ما أدى لإصابته بشكل بليغ في ساقه، واستدعى إخضاعه لعملية جراحية من أجل أن يتمكن من المشي مرة أخرى.
ومرت السنوات، والدكتور عدنان على هذه الحال، من التعرض للصدمات والضغوط والتهديدات، ومن الإصرار على متابعة عمله الذي نذر نفسه له.. وفي هذه الأثناء كانت تصله عروض واقتراحات كثيرة للعمل في الخارج، من زملاء سبقوا أن غادروا سوريا، لكن جواب الطبيب الخمسيني كان معروفا.
يقول الدكتور زياد العيسى، إن رد ابن خاله على تلك العروض كان دائما يتلخص في جملة مفادها: إذا غادر كل الأطباء وتركوا المنطقة، فمن الذي سيساعد الناس؟!
بعد عام 2017 استقر الوضع بالدكتور عدنان نسبيا، حيث بات يعمل في وحدة العناية المركزة في مستشفى الباب، وهي منطقة تسيطر عليها تركيا عمليا (بفضل فصائل تابعة لها)، ولهذا يبدو احتمال استهداف “الباب”، من النظام أو الروس، بعيدا.
وحسب قول الدكتور “العيسى” فإن ظهور فيروس كورونا في الشمال السوري، دفع الدكتور عدنان لبذل قصارى جهده في توعية زملائه، وتلقين المرضى كيفية حماية أنفسهم، لكن الواقع كان بعيدا نوعا ما عن التطبيق، في ظل نقص بالأقنعة والقفازات والمطهرات، بل وحتى الصابون.
وذات يوم عاد الدكتور عدنان إلى المنزل مريضا ومنهكا للغاية، وطلب من أسرته أن لا تقلق، قائلا إنه سوف يرتاح عدة أيام وسيتعافى.
ولكن في غضون أيام، ازدادت حالته سوءا فأصبح يكافح من أجل التقاط أنفاسه، وانتهى به الحال طريحا على سرير وحدة العناية المركزة، التي كان يشرف على علاج المرضى فيها.. نفس الوحدة!
ليلة واحدة قضاها الدكتور عدنان على ذلك السرير، وفي اليوم التالي أسلم روحه إلى بارئها.
قال الدكتور زياد العيسى إن الحرب في سوريا دفعت بآلاف الأطباء لمغادرتها، بعد أن صار العيش فيها غير ممكن، ولكن الدكتور عدنان خالف الكثيرين، وأصر على البقاء رغم الخطر والخوف والهجمات والتفجيرات.
وعقب: كان (الدكتور عدنان) يعلم أن الناس بحاجة إليه، وهذا ما جعله إنسانا غير عادي. هذا النمط من الأطباء قليل جدا.
لقد حلم الدكتور “عدنان الجاسم” بأن يتمكن ذات يوم من افتتاح مستشفى في سوريا يقدم خدمات طبية مجانية للجميع، وهو الحلم الذي تأمل عائلته أن تحققه له، حتى بعد رحيله.
فزوجة الطبيب الراحل، الدكتورة ربا السيد، تسير على دربه عبر إصراره على مواصلة عملها سوريا، وعلى تربية ابنهما البالغ 14 عامًا بمفردها، أما الابن الأكبر سنا (18 عاما) فطموحه أن يصبح طبيبا مثل والده، صحيح أنه يفكر في دراسة الطب بأوروبا، لكنه يخطط للعودة إلى وطنه لمواصلة ما بدأه والده.
يقول الدكتور زياد العيسى إن ابن خاله الدكتور عدنان “أحب بلده، وقبل كل شيء كان يحب مساعدة الناس”.