ملَّ الفأر من أكل قشور الجزر وكسور الخبز والفتات الساقط أمام أبواب الأفران، حتى أنه فكر بالنزوح، لكن لم يكن عنده جواز سفر، ويخشى الحواجز.
اشتهى يوماً اللحم، فهو ليس نباتياً، بل نباتيٌ بالإكراه والفقر، ولكن هيهات له اللحم، وقد غلا سعره، حتى إنَّ سيقان الدجاج ومخالبها المخيفة باتت تغلّف وتباع في البقاليات!
وقال: هزلت … الدنيا باظت.
ثم إنه قصد النهر، ففكر ونظر، ورأى صورته معكوسة في ماء النهر، فحدّث نفسه بصيد السمك، لكن من أين له بصنارة وطُعم أو شبكة يصيد بها.
لو وجد طُعماً لأكله.
ثم إنه ثبت على الضفة، فاقتربت الأسماك الصغيرة متعجبة من هذا الكائن الجديد الذي لم ترَ مثله في أعماق الماء ولا على أطراف اليابسة.
رأى سمكة صغيرة زجاجية الشكل، شفافة، تُرى أضلاعها من وراء الجلد الرقيق، تبصق فقاعات هواء من فمها وتنفثها عليه ساخرة، فغطس مغضباً منها، فانقض عليها وأمسك بها وخرج وهي تتلوى في فمه مثل صفارة عيد الميلاد الأمريكية، وجرى بغنيمته سعيداً إلى جحره، وأكلها بلذة ودفنها في بطنه عقاباً على سخريتها منه.
كان أول صيد له.
احترف بعدها حرفة الصيد، واكترى محلاً يبيع فيه السمك، ولعب القرش في جيبه، واشتهر في الحارة بالفأر الغطّاس، وطاب له العيش، وسمنَ كثيراً، فصار من أكلة السمك، فهو طيّب ومغذٍّ، وصار يشوي ويقلي، ويسلق ويقدّد، وسوى ذلك، فقد علمته الأسماك السباحة، وباع واشترى، وجفّف وقدّد، وتيامن وتبغدد.
فكّر الفأر السبّاح في الزواج وإنشاء أسرة، وتقدم لابنة مختار الحي “فأر البدور”، يخطب يدها، فوافق والدها، وطلب منه أحد مهرين، إما مائة سمكة زجاجية من نوق البحر العصافير، وإما أن يعلق جرسا في عنق هرِّ الحارة؟
هل يظنُّ المختار أنّه عنترة بن شداد؟
لكن لمَ لا يكون عنترة؟
راقب الهرَّ وهو يمشي متبختراً في الحي، وقد أثار الذعر في قلوب الفئران، فقال لنفسه: إنَّ الكائن يعيش مرة واحدة والحياة جميلة، ولن يستطيع القيام بالمهمة الخطيرة، وسينتظر التوازن الاستراتيجي، وعلم أنه مهر تعجيزي، وأنَّ المختار يرغب عنه، ويريد أن يجعله فريسة للهرِّ، فتمنى أنّ يعثر يوماً على سمكة في بطنها حبّة لؤلؤ.
وقرّر أنَّ يتزوج فأرة أجمل من ابنة المختار.
وقف على الضفة، وعبَّ نفساً طويلاً، فنَفَسه قصير، وحدد الجهة التي سيغطس فيها، ثم إنه وثب في لجّة الماء بعد أن رأى سمكة بلورية، تلعب معه لعبة الفقاعات، ولم يكن يدرك الخطر الذي يحيق به من الماء، همّ بالغطس، ووثب في الماء، فانقضت عليه سمكة كبيرة، قذفت بنفسها إلى الأعلى، من غير أن تنفث في وجهه أو تطلق الفقاعات أو عقد هواء، واصطادته وهو بين السماء والبحر، وطعنت السمكة نفسها في الماء.
وتلاطم الموج، وانتثر الماء.
وركدت الأمواج وسكن الماء كأن شيئاً لم يقع.
وكان آخر مشهد رآه الفأر وهو في فم السمكة:
أنّ السماء كانت صافية وسحابة بيضاء واقفة تنظر إليه ساخرة، وأنَّ السمكة التي ابتلعته كانت من أسماك السلّور ذات الشارب، وأن شواربها كانت طويلة، وخيطية، وتمنّى لو مات ميتة أكرم من هذه الميتة التي لن يعلم بها أحد، رجا أن يموت وهو يعلق الجرس في رقبة هرِّ الحارة، حتى إنّه ابتسم وكأنه يسمع صوت الجرس في رقبة الهرّ.
وتمنى لو تزوج من ابنة المختار، وقبّلها قبّلة واحدة قبل أن يموت.