نرفض الشتيمة بحقّ أوغاد الأنظمة القمعية وداعميهم، وقد كنّا نتعلمها في مناهج الأدب العربي وفي قضايا أقلّ أهمية، ونمارسها في حياتنا اليومية، فكم من شاعر وأديب قال في خصومه “ما لم يقله مالك في الخمرة”، وأبعد من ذلك، فإن المتديّنين يعرفون من هو “لكع بن لكع” ومن هو “الرويبضة”، ولا أعلم الفرق بين أن نسمي الأحمق “لكع” والرجل التافه الذي يتولى أمر الناس بـ”الرويبضة” أو “السافل”، ثم هل علينا أن نراعي مشاعر أقارب السافل أو مجرم الحرب ومحازبيه، أم أن التشجيع على الجريمة هي محض جريمة. ليس المقام للتشجيع على قول الفحش مطلقاً، وإنما أروم به توصيف جانب مما تعيشه مجتمعاتنا، وما تعانيه من التضييق والقهر، وكذلك الإشارة إلى أن الشتيمة ليست اختراعاً عصريّاً، وأن بذيء الكلام ليس سرّاً في ثقافتنا العربية، فما قاله الأولون مثل بشار بن برد وأبو نواس والمتنبي لم يأت عليه الآخِرون إذا ما استثنينا بعض القصائد الشعبية المعاصرة ومنها نادرة “كسّمّيات” نجيب سرور.
وهل يختلط على الناس حديث خطاب الكراهية، بحديث ذمّ وشتم الظالمين والسيّئين وذوي السلوك المشين، سواء كانوا أفراداً أم جماعات، ولعلّي أستعير لتمييز الكراهية ما ورد من قيم أقرتها الأمم الإنسانية للتمييز بين حقّ الشتيمة، والكراهية من خلال التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس، إذ تحظر الفقرة 2 من المادة 20 في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ” أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تُشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف”.
أما في حق التعبير وساحته الواسعة، فلعلي أستعير أيضا ما جاء في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص على أن “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
ليس من حقّ أحد أو سلطة حرمان الناس من حريّة القول حتى أقذعه في سلطة حرمت الناس من حقّهم حتّى في العيش، واعتقلتهم وقتلت مئات الآلاف منهم وهجّرت الملايين لأنهم قالوا “لا” للظلم والقهر والاستبداد، وكيف الحكم فيمن ساقهم ضعفهم وجهلهم واستزلامهم لتبرير الجريمة والتشجيع عليها، وليس أوضح من النص الوارد في القرآن الكريم “لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ”.
ليس من الصحيح شتم مؤيد للحاكم لكونه أسود أو أبيض أو لعيب في شكله أو خلقته، أو لأنها أنثى، فتلك قصّة أخرى، رغم أن النّاس لا تؤاخذ في الشدائد، لكنّ شتمه في سلوكه هو نوع من الرّدع الاجتماعي، وغالباً ما يلجأ الناس لكلّ أنواع الشتيمة عندما تفقد العدالة على الأرض قدرتها على تحصيل الحقوق. وفي بيئاتنا المحليّة كثير من الشتيمة على شكل توصيفات، فالناس كانت تصف بعضها صفات مثل “الأعور” و”الأفكح” وغيرها الكثير، وكانت جدّاتنا تستخدم أمثالاً فيها من بذيء القول الكثير، بعضها ما يستخدم الأعضاء التناسلية، أو فعل الفحش، وكان كلّ ذلك يمرّ دون حساب.
ويزيد استخدام الشتيمة على أساس الكراهية بين أبناء الريف والمدن، وكلّ يتناول نقائص الآخر، حتى تكاد تشتعل بين الفينة والأخرى حروب على مواقع التواصل الاجتماعي جرّاء الشعور بالتعالي أو التمييز.
يقول أحدهم إن شتم الطاغية أو أحد رجالاته لا يجيز شتم مواليه ومحازبيه، فقد يكون بينهم المضطرّ، وأقول زاعماً إن على المضطرّ أن يقعد في بيته، وإلا فإن عليه قبول الشتيمة، إن لم يكن من باب تشجيعه للظلم فمن باب تفهمّ أنه يقف في المكان الخطأ.
تختلف الشتيمة عن التّهمة التنميطية، فعندما يصف الأسد خصومه من أبناء الشعب السوري بالجراثيم فتلك شتيمة، أما عندما يصفهم بـ “الإرهابيين” فذلك اتهام خطير يبررّ تغييبهم وحتى قتلهم، وهذه جريمة إنسانية بحقّ ملايين الأبرياء لن تمرّ بالتقادم، وستجرّ كلّ الذين استخدموها من أرجلهم، ولن تكون في موقع المصالحة بل المحاسبة أمام العدالة. آخر القول في من يدبكون على دم أخوتهم أتركه للمتنبي: العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ … لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ.