في بداية الثورة كنت أناهض كل الصور والتقارير والأخبار التي تتحدث عن تشرد أهلنا ومأساتهم وجوعهم في المخيمات، وأحرص على ذكر مناقبهم في الصمود والمواجهة، وبأنهم على استعداد لتحمل كل صنوف العذاب مقابل التخلص من هذا النظام. لكن المأساة كانت أكبر من القدرة على محاصرتها، وجاءت فترة من الفترات كدت أن أصبح أنا بحد ذاتي أحد مواضيع هذه الصور، عندما قام أحد الأشقاء السوريين بالنصب علي في باريس، مطلع العام 2013، وأخذ جميع ما بحوزتي من نقود، ثم توارى عن الأنظار، حيث أمضيت يوما كاملا وأنا أفكر بطريقة لائقة للشحادة، كأن أحمل لوحة مكتوب عليها باللغة الفرنسية : “أنا سوري مشرد وبحاجة للمساعدة”، لكن شاءت الأقدار أن يتدخل سوري آخر لإنقاذي، ومنعني من ارتكاب حماقة، ما كانت لتنتهي آثارها حتى يومنا هذا.
ومرة أرسل لي صديقي مقطع فيديو لصديق آخر، كان ميسورا ومحترما في المجتمع قبل العام 2011، وهو يشكو سوء حاله وأسرته في إحدى الدول المجاورة، ويطلب المساعدة من أهل الخير، فعرفت أننا مقبلون على مرحلة : “الله يستر”.
ثم تطورت الصورة المأساوية لجمهور الثورة، فأصبحنا نتعثر يوميا بعشرات الصور ومقاطع الفيديو، لحالات إنسانية مدمرة، لم يكن بالوسع تجاهلها، بل باتت العناوين العريضة لأغلب مواضيعنا، بالإضافة إلى تلك المشاكل التي خلفها هروب السوريين واستقرارهم في بلدان ومجتمعات أخرى غريبة عنه.
ويمكن القول، إنه بعد العام 2014، أصبحت الثورة السورية في أغلبها عبارة عن مأساة إنسانية، وفي المقابل، كان النظام يحرص على تصدير الصور التي تعزز من معنويات جمهوره، وتظهر تفوقه وانتصاره، ومدى انكسار الآخر. لكن لم يطل الأمر كثيرا، حتى أصبح جمهور النظام، هو الآخر، يتضور جوعا، ويدفع ثمن اصطفافاته.
الوضع اليوم في سوريا مؤلم على الجميع، سواء على جمهور الثورة، أو جمهور النظام، وأصبحت الصورة الوحيدة المقنعة التي يمكن تداولها عن سوريا، هي تلك التي تصور الجوع والفقر والحرمان والتشرد، وتفشي كافة مظاهر الفساد.. ولم يعد لشعارات الثورة ومطالبها مكان بارز بين هذه الصور، مثلما لم يعد لـ”انتصارات” النظام و”قوة” جيشه وشعاراته في المقاومة والممانعة، موقع أيضا.
لقد نجح الطرفان، النظام والمعارضة، بالقضاء على جمهور بعضهما البعض، بكل معنى الكلمة، ولم يتبق من صورة الصراع في سوريا، سوى تلك الصور المقرفة والمقززة للقيادات السياسية في كلا الجهتين، والتي أصبحت مرفوضة من جمهورها، جملة وتفصيلا.. ولا يغرنك ما ينشره إعلام النظام من تقديس لشخص رئيسه والإشادة بانتصاراته على المؤامرة الكونية، فلو قيض لنا التجول والاستماع لجمهور النظام وحاضنته الشعبية، لكنا سمعنا عجائب الشتائم والسباب، على بشار الأسد وحاشيته.
لذلك، نحن مطالبون اليوم بتقديم صورة مغايرة عن سوريا وثورتها، غير تلك التي فرضتها الوقائع خلال السنوات السابقة، من تكريس للقطات الإنسان السوري في الداخل، الذي يحمل السلاح ويقتل بلا هوادة.. ومثلها يجب العمل على تحسين صورة الأسرة السورية في أوروبا، التي لم يعد يظهر منها سوى حالات التفتت والطلاق، وانتشار لظاهرة النسوية المنفلتة.
برأيي، لقد آن الأوان للعمل على المجتمع السوري بحد ذاته، وبعيدا عن قيادات الأمر الواقع التي تتولى تمثيله.. يجب أن نعمل، كشعب سوري، إذا كان يعنينا أمر مجتمعنا وسمعته، على بلورة عمل إنساني منظم، لا يهدف سوى لنجدة الإنسان السوري، وتقديم العون والمساعدة له، من أجل تغيير الصورة النمطية المرسومة له في الإعلام الغربي والعربي… فهؤلاء هم رصيدنا المتبقي، الذي سيبقينا على قيد الاحترام، إن أردنا أن نستمر وأبناؤنا في هذه الحياة.. كسوريين.