بعد 98 عاش جزءا كبيرا منها في دائرة القرار والتأثير، سورياً وعالميا، توفي من يلقب بـ”شيخ الدبلوماسيين السوريين”، عبدالله الخاني، ووري جثمانه في مقبرة باب الصغير بدمشق القديمة، لتطوى صفحة رجل شهد أحداثا مفصلية، وساهم بصنعها.
“الخاني” الذي ولد في دمشق عام 1922، يعد من طراز الرجال “الشاملين” الذين لم نعد نسمع عنهم سوى في كتب التاريخ، فقد كان محاميا وقاضيا (وصل إلى محكمة العدل الدولية)، ووزيرا ومحكماً، فضلا عن عمله في القصر الجمهوري منذ عام 1948، إبان ولاية الرئيس شكري القوتلي، مرورا بهاشم الأتاسي وأديب الشيشكلي.
ويروى أن “الخاني” لعب دورا فاعلا في مناقشات الوحدة بين مصر وسوريا أواخر خمسينات القرن الماضي، بل إن ميثاق الوحدة وقع بقلمه.
ولاحقا كان “الخاني” شاهدا ومشاركا في المحادثات بين سوريا والولايات المتحدة أيام ولاية كل من نيكسون وكارتر.
وفي الثمانينات اختير الرجل ليكون عضوا في محكمة العدل الدولية، وشارك في صياغة دستور للبوسنة والهرسك، وكان له دور في وضع نهاية للحرب الكارثية في تلك البلاد، كما نال عضوية المحكمة الدستورية لاتحاد البوسنة والهرسك.
وليس هذا فحسب، فقد توسعت مساحة تأثير الرجل دوليا، حيث اختير ليكون عضوا في الهيئة الدولية للتحكيم، التي تتبع غرفة التجارة الدولية، وانتخب لعضوية مجلس التحكيم الدولي في مجال الرياضة.
“سامي مبيض” المهتم بتوثيق التاريخ السوري ورموزه، أفصح في منشور له عما كان يكابده “الخاني” في السنوات الأخيرة، ومقدار الألم الذي كان يشعر به من جراء ما حل بالبلاد، حيث كان “مبيض” يودع “الخاني” كل مرة بعبارة: “الله يطوّل بعمرك عبد الله بك”، فيرد “الخاني”:”أكثر من هيك؟! يا ريتو الله ما طوّل بعمري وما شفت شو صار ببلدي.. يا حوينت هالبلد (وأسفي عليها)”.
وقال “مبيض” أن “الخاني” لحق بزوجته “المحسنة الكبيرة التي فارقت دنيانا قبل ثمانية أشهر”، كما لحق بـ”الرئيس الجليل هاشم الأتاسي الذي اعتاد على تقبيل يدهُ في الصباح الباكر من كل يوم وهو داخل على مكتبه في الطابق العلوي من القصر الجمهوري القديم في حيّ المهاجرين”.
وتطرق “مبيض” إلى مشاركة “الخاني” في المظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي، وإلى قيامه بإعلان وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وذلك في مجلس الأمن الدولي باسم المجموعة العربية.
واستفاض “مبيض” قليلا في حديثه عن الاستعراض “المهيب” بمناسبة الذكرى الأولى الجلاء، حيث مرت أمام الحضور مجموعة من الدرك أولا، تبعها فرسان الجيش السوري على جيادهم البيض، ثم فرق من كشّاف سوريا، وبعدهم رجالات الثورة الوطنية الكبرى، حاملين صورة كبيرة للشهيد يوسف العظمة، فيما ينظر “الخاني” إلى الرئيس القوتلي قائلا: “جلاء مبارك فخامة الرئيس”.
ومضى “مبيض”: “دخل الخاني على شكري بك شاباً طموحاً سنة 1947، بتزكية شفهية من رئيس جامعة دمشق الدكتور سامي الميداني، فطلب منه الرئيس القوتلي متابعة مجريات مجلس الأمن حول قرار تقسيم فلسطين، نظراً للغته الإنكليزية المتينة التي تعلّمها في الجامعة الأميركية في بيروت. أحبه الرئيس القوتلي وقرر الإحتفاظ به، ولكنّه لم يجد شاغراً له في ملاك القصر الجمهوري، فطلب منه أن يصبر قليلا. ومن بعدها تم تثبيته في الأمانة العامة للقصر، ليصبح مديرا للبروتوكول ومن ثمّ أميناً عاما للرئاسة السورية. عمل مع الرؤساء القوتلي والأتاسي، ومع حسني الزعيم والرئيس أديب الشيشكلي الذي أرسله إلى فرنسا لتعلّم أصول البرتوكول من قصر الرئيس شارل ديغول”.
ورغم كل ما رواه “مبيض” عن مساهمات “الخاني” ومآثره، وعن معايشته الحرب العالمية الثانية ومعاصرته 20 انقلابا، فقد ضرب الرجل الذي يهتم بتوثيق التاريخ السوري صفحا عن المعاملة المزرية التي لحقت بـ”الخاني” من قبل بشار الأسد تحديدا، حين دعاه للمشاركة فيما سمي “مؤتمر الحوار الوطني” مع بداية الثورة السورية عام 2011، لكن بشار ومخابراته استخفوا بكل المشاركين وبما صدر عنهم من مقترحات وتوصيات لخير البلاد، واستهانوا أيما استهانة بقامات كبيرة كان “الخاني” في مقدمتها، بما يملكه من خبرة تتهافت الدول الأخرى على الاستفادة منها، بينما يزهد فيها حاكم بلده الأم.
ويبقى الدليل الأكبر على مدى انحطاط النظام في تعامله مع “الخاني”، أن يكون الرجل الذي ساهم في وضع دستور لأكثر بلاد العالم حساسية (البوسنة والهرسك)، مبعدا عن المشاركة في وضع دستور لبلاده، حيث أخلى النظام هذه الساحة لنكرات، وأشخاص لا يمكن سوى رؤيتهم في مظهر أقزام، إذا ما قورنوا بـ”الخاني”.