نظرية المؤامرة وبرهانها… أحمد عمر*

قصة “معشر الحمير” لعزيز نسين شهيرة، وقرأت لها ترجمة حسنة في مجلة العربي، فلها ترجمات عدة، وهي من قصص البحث في أصل الأشياء، وتحويل الصَدَفة التي يستخرج منها اللؤلؤ إلى لؤلؤة، وهذا هو عمل الأدب، وملخص القصة:
إنَّ حماراً صالحاً شريفاً، لم ينتسب إلى حزب، رأى ذئباً تلمع أنيابه تحت أشعة الشمس الدافئة، فتذكر الحكمة الشهيرة القائلة إنَّ: تسعة أعشار العقل في التغافل، والذئب حسب دستور الكون، وناموس الحياة، والقانون رقم عشرة، والقانون رقم تسعة وأربعين، حيوانٌ مفترس، فاتك، ضارٍ، وأكلته المفضلة هي لحم الحمير من غير شيّ أو تتبيل، فقال الحمار لنفسه: ماذا يريد مني؟ أنا حمار في حالي، وهو ذئب في حاله، ولست من الحزب الحاكم ولا من الحزب المعارض، ولا علاقة لي بالسياسة، وهناك منظمة عفو دولية تسهر على الناس بالتقارير، ومحكمة عدل دولية عدلها بالقناطير، وليس في كتب الطبخ وقوائم الوجبات العالمية وجبة اسمها حمار بالملوخية.
وكان هذا الحمار يُكثر من مشاهدة التلفزيون الرسمي، وكل تلفزيونات العالم، إمّا رسمية أسود وأسود، وإما غير رسمية بالألوان، فظهر للحمار الصالح قرينه، ولكل كائن قرين، فوسوس له قائلاً: أحسنت يا رفيق، لا تهرب، الجبناء يهربون، أثبت، اصمد يا جريندايز، علِّ بطل فليد، الذئب هو مجرد كلب يعوي، والكلب الذي يعوي لا يعضّ، لا تكن أحمق، فتتبع نظرية المؤامرة الخرقاء التي يؤمن بها العرب، ثم اقترب الذئب الماكر أكثر، ولم يكن يعوي، كان يمشي متمهلاً في يده سُبحة مثل الحكيم ديوجين الذي كان يحمل المصباح في النهار، وكأنه ذاهب إلى التنسك والتبتل في الكهف البعيد.
ارتاب الحمار، وماجت به أمواج الظنون، ومارت به الشكوك مورا، فظهر له قرينه مرة ثانية، وقال: لا تخف، لا تكن من أتباع نظرية المؤامرة، أتباع نظرية المؤامرة ببغاوات، وإذا اقترب منك الذئب فقل: سلمية سلمية.
واقترب الذئب أكثر ودنا، وجعل الحمار يأكل الحشيش ويختلس النظر إليه، وهو يرفع صوته بين الفينة والفينة ويقول: سلمية سلمية، وكأنه دلّال في كراج باصات الهوب هوب، ثم اقترب الذئب أكثر، وآثار الزهد والورع عليه، فخاف الحمار، وأخرج لافتة مكتوب عليها: نعم إلى الأبد، فاقترب الذئب أكثر حتى صار على بعد قفزة، وهمّ الحمار بالفرار، فقال له قرينه: الرجال لا يهربون، سيلحق بك العار إلى الأبد، ولن ترضى بك أتان، وستعيش عانساً، ثم صار الذئب على بعد خطوة حتى لفحت أنفاسه وجه الحمار، فوسوس القرين للحمار هامساً:
أنت في بلد الأمن والأمان، والمرأة تعود إلى بيتها، من العمل في صناعة الصابون، في الساعة الثانية فجراً من غير أن يتحرش بها أحد، والذئب حارس يسهر على حماية الوطن، لا تكن من المؤمنين بنظرية المؤامرة، انظر حولك، الحياة جميلة، والعصافير تزقزق، والوطن معطاء..
ثم إن الذئب انقض على عنق الحمار، وغرز فيها أنياباً كالخناجر، فصاح الحمار من شدة الألم والرعب: هاهووووو هاهووووو. ومنذ ذلك اليوم وسلالات الحمير تبكي وتصيح وتلطم وتحذّر: هاهووو هاهوووووو.
هذه هي نهاية قصة عزيز نسين، بعد تعديلات، ومغامرات سردية وخيانات فنية، أما نهاية قصتي التي لم أكتبها وأتلفتها في هذا المقال، فهي أنَّ الحمير تعلّمت من الدرس الذي تلقاه ذلك الحمار، الذي صار مثالهم وقدوتهم وأسوتهم الحسنة، ودخلت دورات جودو وكاراتيه وتدربت على الرفس والتاكيوندو، والأتمتة الرقمية، ورقصت الباليه.
رأيت أمس تصويرين من عالم الحيوان، واحد لحمار “مدني”، أهلي، وليس حمار “عسكري” وحشي، وهو ينتقم من ضبع، حجمه مثل حجم الحمار، والضبع هو أقوى فك في الغابة، هجم عليه، فأغرز فيه الحمار أسنانه، ثم سحله سحلاً، حتى صار الضبع يستغيث ويستنجد قائلاً: هاهوووووووووووو هاهوووووووووو.
التصوير الثاني من عالم الحيوان هو لحمار وحش، عسكري، يرتدي زياً مموّهاً، كان وصاحبه أو صاحبته، يرعيان في السهوب، وهجم عليهما سبع ضار، من كمين، واصطاد أحد الحمارين الفارين منه، وأطبق بفكيه على رقبته، فتوقف الحمار الثاني الناجي، ولم يقل لنفسه مثلما يقول المصري: مصر أولاً، والسوري: سوريا أولاً، ويا روح ما بعدك روح، وكرَّ على السبع كي ينقذ صاحبته، وتمثّل بقول عنتر بن شداد وهو يقول:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ
مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
وأقبل كالوحش الكاسر، والليث الزائر، وانقض على السبع، وحاول عضّه ورفسه، والسبع مذهول من بسالة هذا الحمار، الذي شره مستطار، فذعر السبع، وجفَّ منه الضرع، فأطلق عنق الحمار، فتحرر وانطلقا معاً، وعلا وراءهما الغبار، والسبع مدهوش مذهول، ومكسور مخذول.
أما الإنسان الظلوم الجهول، فما زال يؤمن بأن تسعة أعشار العقل في إنكار نظرية المؤامرة، ومشاهدة برامج المسامرة، والذئب يقترب، والحياة كلها مؤامرات أو مؤتمرات.

Recent posts